في جوف صنعاء يغلي توتر تخافه ميليشيات الانقلاب الحوثي أكثر من غيرها، وصارت بوادر تلوح في الأفق يلحظها المراقب في سلسلة ردود فعل قام بها مواطنون في المساجد بعد أن عمدت جماعة الحوثي منذ انقلابها على السلطة إلى السيطرة على المساجد والجوامع وفرض خطباء وأئمة ذوي توجه تابع لهم، يمارس التحريض لمصلحة الانقلابيين، في انتهاك صارخ لحق مرتادي المساجد.
الجماعة بفعلتها تلك تؤسس من حيث لا تدري لأسباب نبذها في المجتمع اليمني، وتدفع المجتمع إلى ابتكار وسائل لمواجهتها بطرق تجنبهم أذى الجماعة وتحفظ حقهم في مساجد خالية من التحريض والإكراه، ولو استدعى الأمر مغادرة المسجد وترك الخطيب يتحدث إلى المسلحين الذين أوصلوه إلى المنبر.
الشيخ الحافظ (ع .ب) خطيب وإمام مسجد في أحد الاحياء الشمالية للعاصمة صنعاء، اشترط الشيخ عدم ذكر اسمه حفاظاً على سلامته من الاعتقال وقال عن الأضرار: “إن جماعة الحوثي ترتكب خطأ تاريخياً بحق المجتمع اليمني، وسيكون أثر ذلك سلبيا للغاية؛ لأن أسلوب فرض خطباء على المساجد من أجل التحريض قد ينجح ظاهراً في أول الأمر، لكنه سيفشل باطناً”.
وأضاف الشيخ “إن الضرر الأكبر يتعلق بحجم البغضاء والعداوة الذي سيورثه فرض علماء من توجه واحد على جميع المساجد؛ فالدين لا يفرض بالقوة أبداً، والمصلين كانوا أول من رفض تلك الانتهاكات، والدليل الجلي خروجهم من المساجد وقت خطبة وصلاة الجمعة، أليس رد المواطنين دليلاً على رفضهم انتهاكات الحوثي وفرض خطباء للتحريض بقوة السلاح”.
وحول الأسباب التي تدفع المصلين إلى الخروج من المسجد وترك صلاة الجمعة وخطبتها قبل أن يكمل الخطيب وتقام الصلاة؟ يقول الشيخ “إن رد فعل المصلين كان قليلاً لأنهم مستضعفون وتحت تهديد السلاح، أما إذا وصل المجتمع والمصلون إلى القوة المطلوبة فسوف يكون ردهم ليس التباكي والخروج من المساجد .. لا ، بل سيكون منع الجماعة الانقلابية من فرض خطيب ولو بالقوة، وإن أبت ورفضت الجماعة التنازل في المرحلة القادمة سيكون إنزال الخطيب التحريضي من على المنبر بالقوة كما تم فرضة بقوة السلاح”.
واختتم كلامه بتوجيه نصيحة للميليشيات الانقلابية فقال “هؤلاء قوم قد سدوا أسماعهم وأبصارهم عن الرأي الآخر، ونصيحتي لهم أن يعودوا إلى الله تعالى، ويفيقوا لرشدهم ويراجعوا حساباتهم مع الله ومع المجتمع، هم الآن في حالة تخبط أعمى، ونقول لهم: انظروا ماذا حدث عبر التاريخ القريب في اليمن؛ فقد كانوا يفرضون ثقافتهم ومذهبهم بالقوة (يقصد الشيخ عصر سلطة الإمامة)، وإذا انكشفت دولتهم ذهب مذهبهم مباشرة، وذلك يدل على أن مذهبهم كان بالقوة ولم يكن عن قناعة، كما يفعلون اليوم، وأخيراً نقول لهم إن أفعالهم في المساجد تورث ردود فعل غاضبة، ونخاف عليهم أن يصل الناس إلى وقت يسعون فيه إلى محو هذا المذهب بالقوة”.
أكملنا اللقاء مع فضيلة الشيخ، وانطلقنا نبحث عن المناطق التي خرج فيها مصلون من المساجد وقت خطبة الجمعة، جمعنا المعلومات وعرفنا أن تلك الحوادث تكررت خمس مرات في مناطق متفرقة، واختصاراً على القارئ زرنا منطقتين: الأولى في شمال العاصمة حي مذبح، والثانية في جنوب العاصمة حي بيت بوس.
وبالرغم من أن عراكاً واشتباكات بالأيدي نشبت بين المصلين وميليشيات الانقلاب في أحياء متعددة، رافضين انتهاكات الحوثيين بحق المساجد والعلماء، إلا أن الجماعة تجاهلت المؤشرات الخطيرة ولم تستوعب الدروس، واستمرت في انتهاكاتها؛ حيث استخدمت وزارةَ الأوقاف اليمنية أداةً تفرض من خلالها خطباء التحريض على المساجد في خدمة مشروعها الانقلابي.
وصلنا حي مذبح وقام زميلي بالاتصال بأحد اقاربه، انتظرنا واقفين أمام مسجد الرحمن الذي شهد انتفاضة المصلين على خطيب فرضته الميليشيات في آخر جمعة من شهر شوال، وصل الشاب الذي يدعى ( أ . علي): ما الذي حدث في المسجد في تلك الجمعة ولماذا خرج المصلون من المسجد وقت الخطبة؟فقال: ” يا أخي ذلك اليوم كانت الخطبة تحريضية؛ فالإمام الذي فرضته جماعة الحوثي واسمه (عبد الله الخالد) خطب وكأنه يحشد في ساحة معركة، بينما نحن المصلين تعودنا على الشيخ (منصور الهاملي ) لكن الجماعة أبعدته”.
وذكر الشاب الذي كان أحد المنصرفين من المسجد أن” الخطبة كانت تحريضية واستفزازية فخرجت من المسجد مع باقي المصلين عندما لاحظت أن الخطبة تحولت من نهج توعوي إلى خطاب تحريضي محض بدلاً من نشر مفاهيم التسامح والتعايش بين المصلين ، وركز على التغرير على الجهاد والدفع بأبناء المصلين للقتال ضد أبناء وطنهم، ولو كان دون إذن ولي الأمر كما قال الخطيب الحوثي”.
يكمل الشاب حديثه: “الخطيب وجه تحريضه إلى المعارك في محافظتي تعز وإب، على اعتبار أن اليمن كما يقول الخطيب الحوثي صارت كلها تحارب الدواعش، واتهم كل من يرفض نهجهم بالخيانة والعمالة مما استفز المصلين وجعلهم يخرجون من المسجد”.
بالفعل لم تستوعب الجماعة الانقلابية الغضب داخل المجتمع واستمرت بانتهاكاتها وهو ما جعل اليمني يرفض الخطباء الذين تفرضهم الجماعة، فالمساجد يجتمع بها مصلون من جميع الأطياف والتوجهات السياسية والاجتماعية وكذلك من جميع المحافظات التي يدور فيها القتال ويموت أبناؤهم، بينما الخطيب الحوثي يحرض ضدهم.
بالنسبة للحادثة الثانية كانت في منطقة بيت بوس، يوم الجمعة13 ذو القعدة 1436هـ، في مسجد الحسن بن علي، تأتي في سياق استمرار الجماعة الانقلابية فرض علماء بقوة السلاح حيث تفاجأ المصلون في المسجد بدخول مسلحين وفرضهم أحد الخطباء بدلاً عن الشيخ عبد الحفيظ النهاري، مما حدا بالمصلين إلى ترك المسجد والخروج أثناء الخطبة.
الجدير بالذكر أن الأهالي في المنطقة كانوا قد طالبوا الحوثيين إبعاد المساجد والعلماء عن الممارسات الانتهاكية بعد اختطاف الشيخ الهتاري أكثر من خمسة أشهر. والفيديو الملحق بالتقرير يوضح حجم الرفض لتلك الأساليب القمعية.
في ذات الحي سألنا الاخ (صدام .ح) كيف ينظر أهالي الحي لتصرفات الميليشيات الحوثية بحق المساجد وعلمائها وما حدث يوم الجمعة، أمسك صدام بيدي ومشينا إلى آخر الشارع ، وقال ” نحن في مرحلة خطيرة ونحتاج وقف الحرب والانتهاكات ونرفض إقصاء العلماء من أي تيار، والحوثة يريدون بقوة السلاح أن نجلس ونستمع إلى خطيب محرض يتكلم عنهم فقط، فخرجت من المسجد مثل جميع المصلين، لأني لا أقبل من أحد فرض رأيه على الجميع، والله تعالى يقول (لا إكراه في الدين) فما بالك بجماعة تحمل شعارات طائفية مقيتة”.
وأنهينا اللقاء مع صدام بسؤال حول الهدف الذي تسعى إليه الجماعة الانقلابية من انتهاك حرمة المساجد بالسلاح وإقصاء العلماء فقال: “في الأساس جماعة الحوثي ترهب الناس بالسلاح، وتريد من ذلك فرض مفاهيمها على الناس وتستخدم المساجد طريقاً لتحقيق أهدافها؛ لما للمساجد والعلماء من مكانة مقدسة عند اليمنيين”.
حقيقةً، إذا حاولنا وصف ما حدث في الأشهر الستة الماضية من عمر الانقلاب الحوثي وحتى اليوم،فإن الصورة ستكشف حجم الانتهاكات التي شهدها المجتمع نتيجة طيش الميليشيات وتعنت يفوق تصور القارئ، تعد بوادر ثقافة جهل ميليشاوي خطير، تتجاوز مبادئ الحرية في الرأي إلى حرية الدين والتعبد، وفرض توجهات رغماً عن الجميع، هذه الحوادث تهدد الاستقرار الاجتماعي وتزعزع مكانة المساجد، فهل تعي ميليشيات الانقلاب خطورة تصرفاتها وتتراجع عن انتهاك حرمات العلم والمساجد.
*التقرير من إعداد “برنامج التواصل مع علماء اليمن”