لم يكن الحوثي شيئًا مذكورًا لولا تحالفه مع نظام صالح بما يملكه من شبكة واسعة ممتدة على كل جغرافية اليمن ما قبل عاصفة الحزم بفضل اشتغاله على التناقضات عبر عقود من العمل الحزبي الفردي بواجهة سياسية كون من خلالها واحدة من أعقد التحالفات بين القبائل ورؤوس الأموال والأنصار تحت مظلة «المؤتمر»، هذه حقيقة لا يمكن القفز عليها في مرحلة ما بعد صالح والحوثي التي بدأت تباشيرها الآن حيث يتبقى إقليم آزال وصنعاء التي يعتقد صالح أنها ملاذه الأخير، حيث بدأ بحشد كل قوته للبقاء هنالك، بل وبث الرعب بين الأهالي عبر سياسة الاعتقال والتجنيد القسري والترهيب، لكن ذلك أيضًا ما كان له أن يفلح لولا التحالف مع المؤسسات التي بناها الحوثيون على مدى السنوات الماضية وتحديدًا منذ تأسيس فكرة «أنصار الله» على طريقة حزب الله اللبناني، حيث قام الحوثيون باستغلال هذا البلد الفقير والمهمل لعقود لتدشين مؤسسات خيرية وتعليمية على طريقة «حزب الله» في الجنوب اللبناني، وساهم تراجع وإخفاق الدولة إلى تحول مناطق الشمال وتحديدًا صعدة وصنعاء إلى ما يشبه فكرة المجتمع المنفصل أو الدولة داخل الدولة.
التركيز الغربي على «القاعدة في اليمن» وفي غيرها يعطي مجالاً لنمو الميليشيات الشيعية المتطرفة والمسلحة، وهذه حقيقة يجب رصدها حيث استهداف أي تنظيم لا يعني دخول البديل المدني أو السياسي، بل ترك الساحة لفراغ سلطوي لا يمكن تعبئته إلا عبر ميليشيا مضادة تحمل ذات القدرة على الاختراق والتنظيم لكنها قد تكون معاكسة في توجهها الآيديولوجي، وهذا ما تم في العراق بشكل كبير وبشكل جزئي في لبنان، وتترشح الحالة السورية إلى سيناريو مشابه، وهو الأمر الذي كاد يعصف باليمن لولا تفطن القيادة السعودية وإطلاق «عاصفة الحزم» التي أعادت جزءًا من التوازن الإقليمي الذي بدت دوله «الربيعية» مترنحة جراء موجة الاحتجاجات.
كلنا يدرك أنه في أوج حملة الولايات المتحدة ضد تنظيم «القاعدة في جزيرة العرب» نشطت الحركة الزيدية «أنصار الله» الميليشيا الجديدة الثائرة في تدعيم صفوفها وإعادة بناء نفسها مستخدمة كل الشعارات التسويقية ومقتفية آثار «حزب الله» وتكتيكاته حتى قيل في تلك الأيام إن عناصر كثيرة من الحزب تسللت على فترات متباعدة لإعطاء التوجيهات والتأكد من تمدد الهوية الزيدية السياسية الجديدة التي اتخذت شعار «الله أكبر.. الموت لأميركا.. الموت لإسرائيل.. اللعنة على اليهود.. النصر للإسلام»، وهو شعار لا يكفي لأن تستهدفه أميركا التي ذهبت مهرولة إلى من نعتها ردحًا طويلاً بالشيطان الأكبر، فالسياسة في نهاية المطاف فن الممكن وليست مناكفات لفظية لا حظ لها من التأثير.
وفي السياق يمكن القول إن 11 من سبتمبر (أيلول) الذي مرت ذكراه قبل أيام دون ضجيج يذكر، ساهم في تقويس «الإرهاب» برداء منسوب للسنة في تجاهل كبير للتنوع الكبير داخل الجسد السني بكل تشكلاته؛ معتدليه ومتطرفيه، وحتى المدارس والتيارات التقليدية ذات الطابع السلمي، تأثرت بذلك الحدث، مما أتاح الفرصة للأقليات المذهبية والفقهية الصغيرة لأن تعيد النمو في ظل الحرب على الإرهاب، إما بتقديم نفسها بديلاً، أو حتى بمحاولاتها الدؤوب لإعادة الاعتبار لذاتها باعتبارها تجليات معتدلة، لكن الإشكالية أن مهاجمة التشدد والتطرف ساهمت في إضعاف المؤسسات الدينية المعتدلة المترهلة، وقدم الإسلام السياسي السني والشيعي كبديل بحكم قواعده الشعبية والجماهير العريضة التي تقف خلفه، وهي كتل بشرية ومعنوية أو بلغة أخرى رأسمال سياسي لا يمكن تجاهله من قبل الولايات المتحدة التي تبحث عن التأثير عبر سلطات موجودة وقائمة من المعارضة أو الأحزاب السياسية المؤثرة، وهو ما كشف لاحقًا عن خلل مفاهيمي كبير في البحث عن حلول لدمقرطة هذا الجزء من العالم عبر بوابات لا تؤمن بالديمقراطية ذاتها أو بالتداول السلمي للسلطة.
لاحقًا ساهم ضرب السلطات بالمعارضات السنية وأغلبها تتبع الإسلام السياسي أو منقلبة عليها كالتنظيمات المتطرفة والقاعدية في انفلات الوضع الأمني وانتعاش سوق السلاح والتهريب، وهنا انتعشت كل الأحزاب الشيعية الراديكالية في المنطقة من حزب الله في الخليج إلى الحوثيين في اليمن وبات هناك ما يشبه الحلف بين هذه الأحزاب تجلى في مسألة التقارب في تجربة «حزب الله» و«أنصار الله»، حيث يعيش الحوثيون نفس التجربة على مستوى التسليح والخبرات العسكرية العريقة.
واللافت أن أسواق السلاح في اليمن وهي تجارة كبيرة وواسعة خضعت لسيطرة الحوثيين بسبب قدرتهم على التفاوض والشراء بكميات كبيرة، هناك على سبيل المثال سوق «الطلح» الأهم والأبرز في إمداد المقاتلين من «أنصار الله»، هذا عدا الاستفادة من غنائم الحرب مع الميليشيات الحكومية أو المستقلة وهي تفاصيل تكفلت أذرع صالح الطويلة بالتنسيق لها عبر سنوات الانتقام من الربيع الذي أطاح به بشكل لم يتوقعه حتى هو وحاول الدفع ببدائل يستطيع السيطرة عليها إلا أن مسار الأحداث كل مرة والتحالف بين الإخوان و«أنصار الله» والشباب الثوري عجل برحيله ودخول اليمن إلى مسارات الفوضى التي لا يمكن السيطرة عليها.
هذا المسار التاريخي مهم جدًا لمرحلة ما بعد «عاصفة الحزم» والتحالف الذي يجب أن يبقى طويلاً في اليمن حتى بعد انتهاء العمل العسكري وبمباركة يمنية مجتمعية لإعادة الأمل ومرحلة البناء التي يجب تبدأ بتفتيت إرث صالح من التكتلات السياسية إلى مركزية الشمال إلى المحاصصة الجهوية والمناطقية، وهو عمل شاق وكبير سيضمن عدم ترك اليمن للفراغ كما فعلت الولايات المتحدة في أفغانستان والعراق ومواقع كثيرة.