على مدى أكثر من ثلث قرن من الزمن بنى صالح شبكات واسعة على حساب المؤسسات. بقي يمن صالح سلسلة شبكات تنتهي خيوطها في يده، وكان من المتوقع أن تنهار تلك الشبكات لمجرد انهيار صالح، المركز، لكن ذلك لم يحدث. في مرة قال صالح: نحن لسنا أسماكاً نموت إذا خرجنا من الماء. يقول الساسة في اليمن: عندما ينفي صالح شيئاً، أو يؤكده، فإن نقيضه هو الصحيح. ما إن حدثت الثورة، ٢٠١١، حتى أحست شبكات صالح، مثل صالح، بخطر بالغ. لم يكن الأمر متعلقاً بالدفاع عن حكم العائلة، كما قيل، بل عن هيمنة الشبكة الكبيرة.
آلت الثورة إلى المبادرة الخليجية، وتلك أزاحت صالح من الواجهة وأبقت على شبكته الكبيرة. احتفظت الشبكة بتماسكها، مدفوعة بغريزة بقاء ورؤية واضحة للأخطار. نظرياً انطلق الحكم إلى أسرة أخرى: أسرة هادي. لكن الأمر، عملياً، لم يكن كذلك. فقد أراد هادي أن يبني سلطانه من خيوط شبكة صالح. سرعان ما وقع هادي ضحية أوهامه. فقبل عامين استدعى صالح وفداً من شيوخ خولان، في الشمال، وطلب منهم التوجه إلى هادي ومهاجمة صالح لدى الأخير، ثم طرح أمانيهم لدى الرئيس. فعلوا ذلك وحصلوا على مناصب عسكرية كبيرة منحت لرجال القبيلة. مع مرور الأيام كان العسكريون الذين صعدهم هادي في الجيش، محاولاً سرقتهم من شبكة صالح، هم الذين وقفوا مع الأخير في هذه الحرب ووضعوا الأول تحت الإقامة الجبرية.
استمرت شبكة صالح متماسكة، ولم يكن السر في صالح بل في التاريخ. فقد تواطأ الجميع، صالح ورجاله، على توزيع اليمن بالعدل والقسطاس فيما بينهم. قبل سبعة أعوام وصف صالح اليمن ب”الكعكة” في معرض تعليقه على غضب أحد رجاله منه والتجائه إلى القاهرة “زعلان لأنه لم يحصل على نصيب من الكعكة” علق صالح. استمرت لعبة الكعكة الحجرية حية على مر الأزمان، وتوسع صالح أفقياً ورأسياً في حركته محضراً طبقات جديدة إلى شبكته قيد التوسع. اخترق طبقات المثقفين والإعلاميين والساسة وجزء تلك الكلية، إذا استعرنا من سارتر، حائلاً دون بروزها كطبقة متماسكة يمكنها أن تنتج قيادات وطنية ومشاريع كلية بمقدورها تهديد مركزه ومركزيته في المستقبل. في زمن صالح كان كل شيء قيد التفكك، وبقيت الدولة غائبة لمصلحة حضور الشبكة. أطلق صالح على شبكته صفة الدولة، واستكمل اللعبة الخطرة.
نظر صالح من وقت لآخر إلى الأنوية المدنية، والعسكرية، التي يمكن تؤسس ببطء للدولة فعمَد إلى تبديدها بطريقة غير مسبوقة: يخلق أنوية بديلة تأخذ نفس المسمى. عسكرياً استبدل الجيش بالحرس الجمهوري، ومنذ انتهت حرب صالح في الجنوب ١٩٩٤ والجيش اليمني يدخل في طور التلاشي البطيء: أحال ضباط الجنوب إلى التقاعد ومنع تزويد الجيش الوطني بالسلاح أو قطع الغيار منذ ذلك العام. أي أنه، عملياً، أحال كل الجيش إلى التقاعد وأنشأ جيشاً بديلاً يدين له، على نحو مباشر، بالولاء، واستخدمه في حراسة شبكته.
مدنياً ذهب يستنسخ الأحزاب والمؤسسات والنقابات. أنتج بديلاً لكل المؤسسات والتشكيلات المدنية ومنح بدائله الصفة الشرعية. حتى نقابة الأطباء تعرضت للاستنساخ، وصار هنالك نقابتا أطباء بنظامين متوازيين ومتصارعيين. حالت شبكة صالح دون أن تجري الأنهار سوى في أراضيها وتحت نظرها. بينما بقي الشعب اليمني في جغرافيا مترامية الأطراف مجرد جماهير موسمية.
كانت تلك الشبكة هي التحدي الأكبر أمام ثورة فبراير، وحتى الآن. سياسياً حصلت تلك الشبكة على صفة الحزب “المؤتمر الشعبي العام”، وثقافياً كانت شبكة طبقية ينتمي إليها البارونات والمفاتيح الاجتماعية في كل اليمن. شبكة عابرة للطائفة والجغرافيا، تنتمي كلياً إلى النفوذ والثروة.
في لحظة حرجة اصطدمت شبكة صالح بشبكة جديدة ناشئة: الحوثية، فخاض صالح حرباً شرسة ضد الخصم الجديد، وصل حد الاستعانة بالدعم اللوجيستي الأميركي والقوات السعودية. بعد أول غارة جوية للجيش السعودي فوق سماء صعدة وقف صالح خلف المايكرفونات في بلحاف ولوح بيده مبتسماً: الآن بدأت الحرب، ما سبق كان مجرد بروفا. ونال تصفيقاً كبيراً. كان بين الحاضريين هاشميون أقحاح صفقوا بحرارة.
مع الأيام توصل صالح إلى تسوية مع خصمه الجديد، كما يفعل مع خصومه، وصار عبد الملك الحوثي أحد العناصر الثقيلة في شبكة صالح الكبيرة. تبادل الرجلان الأدوار، في السنوات الأخيرة، على طريقة الرواية متعددة الأصوات. مؤخراً قال صالح إن ذلك الحلف الجديد هو أمر إلهي، وقرار اتخذ في السماء. سلم صالح شبكته لعبد الملك الحوثي، مؤقتاً، وسلم عبد الملك الحوثي جيشه لصالح مؤقتاً، وخاض الرجلان حرباً ضد كل الناس وضد لا أحد وتاها في أرض بلا قرار.
لا يمكن وصف الحرب الجارية في اليمن بالطائفية ولا المناطقية. فقد كان كبار الضباط الجنوبيين على رأس الفريق الذي هندَس عملية سقوط صنعاء ” قائد المنطقة الخامسة في تهامة كان أول قائد عسكري يطلب من الجيش أداء الصرخة الحوثية قبل سقوط صنعاء. أما وزير الدفاع فكان الرجل الذي عمل كل ما بوسعه لفتح أبواب صنعاء أمام الحوثيين ثم غادر إلى عمان ليعيش في قصر عظيم مع أسرته”.
ليست حرباً طائفية، ولا مذهبية أيضاً. فشبكة صالح الكبيرة التي تقاتل إلى جواره وجوار الحوثي يشكل السنة الشافعيون نسبة ضخمة فيها.
يحاول الحوثي، منفرداً، أن يغزو بالطائفة لكن صالح يقاتل بالشبكة، بالبارونات واللصوص والمفاتيح الاجتماعية، بكل أولئك الذين يعتقدون أنهم أسماك، وأنهم سيموتون فوراً إذا ما خرجوا من الماء.
عن الوطن القطرية.
م. غ.