في تفاصيل مطولة… “أسعار الصرف” لماذا ارتفعت وأين ستتجه؟

شهدت أسعار الصرف خلال الأيام القليلة الماضية ارتفاعا حادا في اسعار العملات الأجنبية مقابل الريال اليمني وبالتحديد سعر صرف الدولار، وجاء هذا الارتفاع بعد الاستقرار النسبي خلال الثلاث السنوات الماضية من 2012-2014م عند مستوى 215.15 ريال للدولار الواحد،كما في نشرة البنك المركزي اليمنيإلا ان هذه الاسعار ارتفعت وبشكل تدريجي من خلال فترات متقطعة من العام الحالي متجاوزة اسعار نشرة البنك المركزي فقد ارتفع سعر الدولار مقابل الريال خلال هذا العام من 215 الى 220 ثم 225 ثم 240 ثم وصل الى 270 ريال خلال الشهر الماضي كأعلى سعر للدولار مقابل الريال اليمني ولم يصل تدهور العملة المحلية الى هذا المستوى طيلة العقود الماضية.

خلال الأعوام السابقة فقد الريال اليمني الكثير من قيمته جراء السياسات الخاطئة من قبل الحكومات المتعاقبة والفساد الذي التهم كل ثروات البلاد وشل حركة الاقتصاد مروراً بالصراعات السياسية في البلد وانتهاءً بالسيطرة على السلطة بقوة السلاح تلى ذلك اتخاذ قرارات خاطئة من قبل الممسكين بزمام السلطة على سبيل المثال قرار تعويم المشتقات النفطية.

ويمكن ان نوجز اسباب التدهور الحاصل لأسعار العملة المحلية بثلاث عوامل رئيسية:

العامل الأول يتعلق بالجوانب النفسية للمجتمع
يمكن ان يكون السبب الأبرز أو الأكثر تأثير على تدهور العملة المحلية هو فقدان المواطنين (الثقة) بالعملة المحلية وبعدم قدرتها على التعافي،وقدرة السلطة القائمة في إعادة إصلاح أوضاع البلد المختلفة فالتقلبات الحادة في اسعار الصرف منذ نهاية تسعينيات القرن الماضي وارتفاعه المفاجئ على إثر كل أزمة سياسية او اقتصادية في البلد جعلالشركات والمستثمرين بشكل عام في البلد يفقدون الثقة بالعملة المحلية بشكل شبه نهائي.

لم يقتصر فقدان الثقة بالعملة المحلية على الشركات والمستثمرين بل تعدى الأمر ذلك ليصلالى المجتمع بشكل عام ،فتحول الغرض من شراء العملات الأجنبية من أداة تسوية مدفوعات خارجية كالاستيراد السلع وغيره إلى مخزن للقيمة لدى كل فئات المجتمع فالمدخرون للأوراق المالية اتجهوا الى شراء عملات أجنبية تحفظ لهم قيمة مدخراتهم وهذا شكل ضغط غير عادي على أسعار الصرف طيلة الفترة الماضية –وإلى الآن-فخلق عرض وطلب بنسب متفاوتة على العملات الأجنبية أدى لارتفاع سعر صرفها وبالأخص الدولار مقابل العملة المحلية.

يندرج تحت هذا العامل أيضا مغادرة محافظ البنك المركزي اليمني إلى مسقط رأسه واعتكافه عن العمل لأكثر من شهرين كمحافظ للبنك بسبب مضايقات تعرض لها من قبل سلطة الأمر الواقع المتمثلة في الحوثين وحلفاؤهم كما تشير التقارير الصحفية تسببت بهلع لدى الأفراد والشركات على حد سواء من أن البنك المركزي على حافة الهاوية فلجأ البعض الى تحويل ما يملكهمن العملة المحلية الى دولارات للحفاظ على قيمتها.

العامل الثاني فيما يتعلق بالسياسات النقدية
انتهجت الدولة ممثلة بالبنك المركزي سياسات نقدية خاطئة منذ فترة طويلة ساهمت بما وصل اليه سعر الدولار الآن وبشكل تدريجي فقد اعتمد البنك المركزي على سياسة المحافظة على استقرار أسعار الصرف وكبح جماح التضخم الذي كان يحصل لسبب ما برفع اسعار الفائدة للمودعين لامتصاص العرض النقدي حتى وصلت نسبة الفائدة الى 25%  كما عمد أيضاً الى إصدار اذون خزانة بنسب خصم عاليةلتغطية عجز موازنة الدولة وتوفير سيولة للحكومة فقد ارتفعتالفوائد المتوجب دفعها للدائنين المحليين خلال الفترة من 2005م إلى 2010م من  480مليار ريال الى 995 مليار ريال حسب تقارير الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة وهو مايمثل نسبة 44% و42% من اجمالي الناتج المحليوهذا يشكل عبئ كبير على ميزانية الدولة كدين محلي.

فرفع معدلات الفائدة كسياسة نقدية صحيحة لامتصاص العرض النقدي والمحافظة على مستويات معينة لأسعار الصرف وتخفيف التضخم لكن هذا الأمر الإجراء يمكن أن يكون لفترات بسيطة حتى تتمكن الحكومة من انتهاج سياسات اقتصادية أكثر تكاملية مع السياسة النقدية لإصلاح اوضاع الاقتصاد لا أن تستمر هذه السياسة النقدية لفترات طويلة فتضر باقتصاد البد.

افتقار المركزي القدرة على الرقابة على شركات الصرافة والمضاربون في السوق السوداء بأسعار العملات هو ماساهم بارتفاع سعر الدولار وما يؤكد ذلك أن حجم الواردات أنخفض بشكل ملحوظ منذ بداية هذا العامنظراً للحرب الدائرة ،وإغلاق بعض الموانئ واحجام خطوط الملاحة من الدخول المياه الاقليمية اليمنية لارتفاع المخاطر، وهذا يعني أن الطلب على الدولار لغرض الاستيراد لن يشكل ضغطاً كبيراً على شرائه ،غير أن المضاربة بسعره هو ما دفعه للارتفاع.

تشديدات البنك المركزي اليمني في الآونة الأخيرة على البنوك المحلية والمؤسسات المالية بعدم قبوله الفئات الصغيرة الا بعد فرزها، عززت مخاوف المودعين سواء كأفراد او شركات تجارية ومالية من احتمال انهيار العملة المحلية وهذا بدوره ايضاً جعلهم يتجهون أكثر صوب العملات الأجنبية للشراء.

العامل الثالث ما يتعلق بالسياسة الاقتصادية
لو رجعنا الى العقدين الماضين سنجد ان الحكومات المتعاقبة اخفقت وبشكل كبير في ادارة الجانب الاقتصادي للبلد وذلك بعدم قدرتها على الاستفادة من إيرادات الدولة المختلفة في الاصلاحات الاقتصادية كزيادة معدلات النمو واصلاح الهيكل الاقتصادي والبنية التحتية وتنمية القطاعات الإنتاجية غير النفطية كالزراعي والسمكي والصناعي وبناء المؤسسات التعليمية التي تسهم في تحسين جودة المخرجات ورفد سوق العمل الذي يتطلب الى المهنية والاحترافية والتخصصية في الانتاج الصناعي او الزراعي ومختلف القطاعات الانتاجية،والتي بدورها ستسهم في انعاش الاقتصاد وخفض معدلات البطالة وزيادة انتاجية وصادرات البلد وتحقيق فائض في الميزان التجاري والذي سينعكس على أرصدة الدولة من العملات الأجنبية ما يعني توفرها وزيادة عرضها لدى البنوك والمواطنين وشركات الصرافة ما يساهم في عدم ارتفاع سعرها مقابل العملة المحلية مرة أخرى.

كان لتوقف الصادرات اليمنية أهمية كبيرة لوصول العملة المحلية الى ما وصلت إليه من تراجع خلال الفترات الأخيرةبالذات الصادرات النفط والغاز والتي تشكل 70% من إيرادات الدولة من غير الصادرات الزراعية والسمكية هذا علاوة على حوالات المغتربين والتي تقدر بـ4 مليارات دولار سنوياً وهذا هو المصدر او الوريد ربما الوحيد الذي لا زال ينبض بالحياة ليرفدالاحتياطات الخارجية للدولة بالعملات الأجنبية وتمويل الواردات .

توقف المساعدات والمنح والقروض من الدول المانحة والمنظمات الدولية التي كانت مقررة وفق برامج وخطط دعم الاقتصاد المحلي وفق برامج وآليات كان قد اتفق عليها مسبقاً مع الدول والمنظمات ذات العلاقة،ويأتي التوقف بسبب المخاوف من ان تذهب تلك المبالغ الكبيرة الى أيدي غير موثوقة بصرفها حسب ما هو مقرر وذلك في ظل غياب السلطة الشرعية بحسب المانحين والمقرضين،وهذا فوت على خزينة الدولة ايضاً عملة صعبة من هذه المنح تقدر بـ4 مليار دولار كان يفترض ان تحصل عليها الحكومة خلال هذا العام فقط.

قرار التعويم للمشتقات النفطية من قبل ما يسمى اللجنة الثورية خلق طلب حاد على العملات الأجنبيةمن قبل مختلف التجار والمستثمرين الراغبين في استيراد هذه السلعة مع قلة المعروض منها ادى وبشكل كبير الى ارتفاع سعرها مقابل الريال اليمني لكن هذا الأمر حسب توقعي لم يتم من قبل كثير ممن كانوا لديهم الرغبة في الاستثمار في هذا القطاع فواجهتهم عوائق كثيرة أبرزها أن هذه السلعة قد تتعرض للاستيلاء عليها بالقوة في ظل عدم وجود سلطة حقيقية والدليل على ذلك قلة المعروض الحالي من المشتقات النفطية في الأسواق السوداء مقابل مبالغ العملة الأجنبية التي تم شرائها من الدولارات عند صدور القرار والتي تقدر بعشرات الملايين من الدولارات (لم يتم الافصاح عنها من قبل الجهات الرسمية )وهذا ما اكد عليه خبراء ومحللين اقتصاديين بأن القرار لم يكن موفقاً في هذا المرحلة ،علاوة على ذلك المستثمرين في القطاعات الأخرى أيضاً تخوفوا من ان الدولار سيستأثر به المستثمرين في قطاع استيراد المشتقات النفطة فاتجه الجميع نحو شراء العملات الأجنبية بشكل كبير وفي وقت واحدما شكل ضغط كبير أدى لارتفاعه وتجاوزه حاجز الـ270 ريال للدولار الواحد.

أمر آخر مهم وهو أن هناك مؤسسات وشركات محلية تسعر منتجاتها أو خدماتها بالدولار مع عدم وجود أي مبرر لذلك على سبيل المثال المدارس والجامعات وبعض المستشفيات الخاصة وبعض شركات الأدوية وبعض الشركات والمحلات التجارية التي تفرض منتجاتها بالدولار -ولم يتبقى سوى أصحاب الخضروات والقات -وهذا يخلق طلب كبير على الدولار فيرتفع سعره.

كل ما ذكر كان له سبب بشكل مباشر او غير مباشر على تدهور العملة المحلية وانخفاض قيمتها مقابل العملات الأخرى لكن يبقى السؤال الملح إلى أين ستتجه أسعار صرف الريال اليمني مقابل العملات الأجنبية في الأيام القادمة؟

من خلال مؤشرات الوضع الراهن كتوقف الصادرات بشكل كامل أو شبه كاملاً وتوقف المساعدات والهبات وهجرة رؤوس الأموال خارج البلد وانخفاض نسب الاحتياطي الذي لا يكفي الا لفترة بسيطة للاستيراد وكذا عدم ظهور أي مؤشرات لانفراجه سياسية وتوقف الحركة الاقتصادية وزيادة معدلات البطالة والفقر والتضخم في البلد وانعدام المشتقات النفطية في البلد كل ذلك يشير إلى أن الاقتصاد لن يتعافى على المدى القريب والمتوسط.

وهذا يجعلنا نتوقع استمرار تصاعد اسعار صرف العملات الأجنبية بنفس شكل وآلية الارتفاعات للعشر السنوات الماضية والتي عادة ما يستقر لفترة ثم يعاود الارتفاع مرة أخرى منذ 2005إلى 2015 على التوالي:
191.24/197.5/198.95/199.78/205/236.6/219.19/215.15/215.15/215.15

ياسر عبدالمجيد المقطري